سورة التوبة - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{إنما} في هذه الآية حاصرة تقتضي وقوف {الصدقات} على الثمانية الأصناف، وإنما اختلف في صورة القسمة فقال مالك وغيره: ذلك على قدر اجتهاد الإمام وبحسب أهل الحاجة، وقال الشافعي: هي ثمانية أقسام على ثمانية أصناف لا يخل بواحد منها إلا أن {المؤلفة} انقطعوا.
قال القاضي أبو محمد: ويقول صاحب هذا القول: إنه لا يجزئ المتصدق والقاسم من كل صنف أقل من ثلاثة، وأما الفقير والمسكين فقال الأصمعي وغيره: الفقير أبلغ فاقه وقال غيرهم: المسكين أبلغ فاقه.
قال القاضي أبو محمد: ولا طريق إلى هذا الاختلاف ولا إلى الترجيح إلا النظر النظر في شواهد القرآن والنظر في كلام العرب وأشعارها، فمن حجة الأولين قول الله عز وجل {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر} [الكهف: 79] واعترض هذا الشاهد بوجوه منها، أن يكون سماهم {مساكين} بالإضافة إلى الغاصب وإن كانوا أغنياء على جهة الشفقة كما تقول في جماعة تظلم مساكين لا حيلة لهم وربما كانوا مياسير ومنها: أنه قرئ {لمسّاكين} بشد السين بمعنى: دباغين يعملون المسوك قاله النقاش وغيره ومنها: أن تكون إضافتها إليهم ليست بإضافة ملك بل كانوا عاملين بها فهي كما تقول: سرج الفرس، ومن حجة الآخرين قول الراعي: [البسيط]
أما الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سبد
وقد اعترض هذا الشاهد بأنه إنما سماه فقيراً بعد أن صار لا حلوبة له، وإنما ذكر الحلوبة بأنها كانت، وهذا اعتراض يرده معنى القصيدة ومقصد الشاعر بأنه إنما يصف سعاية أتت على مال الحي بأجمعه، فقال أما الفقير فاستؤصل ماله فكيف بالغني مع هذه الحال، وذهب من يقول إن المسكين أبلغ فاقه إلى أنه مشتق من السكون، وأن الفقير مشتق من فقار الظهر كأنه أصيب فقارة فيه لا محالة حركة، وذهب من يقول إن الفقير أبلغ فاقه: إلى أنه مشتق من فقرت البئر إذا نزعت جميع ما فيها، وأن المسكين من السكن.
قال القاضي أبو محمد: ومع هذا الاختلاف فإنهما صنفان يعمهما الإقلال والفاقه، فينبغي أن يبحث على الوجه الذي من أجله جعلهما الله اثنين، والمعنى فيهما واحد، وقد اضطرب الناس في هذا، فقال الضحاك بن مزاحم: {الفقراء} هم من المهاجرين {والمساكين} من لم يهاجر، وقال النخعي نحوه، قال سفيان: يعني لا يعطى فقراء الأعراب منها شيئاً.
قال القاضي أبو محمد: والمسكين السائل يعطى في المدينة وغيرها، وهذا القول هو حكاية الحال وقت نزول الآية، وأما منذ زالت الهجرة فاستوى الناس، وتعطى الزكاة لكل متصف بفقر، وقال عكرمة: {الفقراء} من المسلمين، {والمساكين} من أهل الذمة، ولا تقولوا لفقراء المسلمين مساكين، وقال الشافعي في كتاب ابن المنذر الفقير من لا مال له ولا حرفة سائلاُ كان أو متعففاً والمسكين الذي له حرفة أو مال ولكن لا يغنيه ذلك سائلاً كان أو غير سائل، وقال قتادة بن دعامة: الفقير الزمن المحتاج، والمسكين الصحيح المحتاج، وقال ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري وابن زيد وجابر بن زيد ومحمد بن مسلمة: {المساكين}الذين يسعون ويسألون، و{الفقراء} هم الذين يتصاونون، وهذا القول الأخير إذا لخص وحرر أحسن ما يقال في هذا، وتحريره: أن الفقير هو الذي لا مال له إلا أنه لم يذل ولا بذل وجهه، وذلك إما لتعفف مفرط وإما لبلغة تكون له كالحلوبة وما أشبهها، والمسكين هو الذي يقترن بفقره تذلل وخضوع وسؤال، فهذه هي المسكنة، فعلى هذا كل مسكين فقير وليس كل فقير مسكيناً، ويقوي هذا أن الله تعالى قد وصف بني إسرائيل بالمسكنة وقرنها بالذلة مع غناهم، وإذا تأملت ما قلناه بان أنهما صنفان موجودان في المسلمين، ويقوي هذا قوله تعالى:
{للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف} [البقرة: 273] وقيل لأعرابي: أفقير أنت فقال: إني والله مسكين، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وليس المسكين بهذا الطوّاف الذي ترده اللقمة واللقمتان، ولكن المسكين هو الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه»، اقرأوا إن شئتم {لا يسألون الناس إلحافاً} [البقرة: 273]، فدل هذا الحديث على أن المسكين في اللغة هو الطواف، وجرى تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على المتصاون مجرى تقديم {الفقراء} في الآية لمعنى الاهتمام إذ هم بحيث إن لم يتهمم بهم هلكوا، والمسكين يلح ويذكر بنفسه، وأما العامل فهو الرجل الذي يستنيبه الإمام في السعي على الناس وجمع صدقاتهم، وكل من يصرف من عون لا يستغنى عنه فهو من {العاملين} لأنه يحشر الناس على السعي، وقال الضحاك: للعاملين ثمن ما عملوا على قسمة القرآن، وقال الجمهور: لهم قدر تعبهم ومؤنتهم قاله مالك والشافعي في كتاب ابن المنذر، فإن تجاوز ذلك ثمن الصدقة فاختلف، فقيل يتم لهم ذلك من سائر الأنصباء وقيل، بل يتم لهم ذلك من خمس الغنيمة، واختلف إذا عمل في الصدقات هاشمي فقيل: يعطى منها عمالته وقيل: بل يعطاها الخمس، ولا يجوز للعامل قبول الهدية والمصانعة ممن يسعى عليه وذلك إن فعله رد في بيت المال كنا فعل النيبي صلى الله عليه وسلم بابن اللتبية حتى استعمله على الصدقة فقال، هذا لكم وهذا ما أهدي لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
«هلا قعدت في بيت أبيك وأمك حتى تعلم ما يهدى إليك» وأخذ الجميع منه.
قال القاضي أبو محمد: وتأمل عمالة الساعي هل يأخذها قبل العمل أو بعده، وهل هي إجازة أو هي جعل وهل العمل معلوم أو هو يتتبع وإنما يعرف قدره بعد الفراغ، وأما {المؤلفة قلوبهم} فكانوا صنفين، مسلمين وكافرين مساترين، قال يحيى بن أبي كثير، كان منهم أبو سفيان بن حرب بن أمية والحارث بن هشام وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعيينة والأقرع ومالك بن عوف والعباس بن مرداس والعلاء بن جارية الثقفي.
قال القاضي أبو محمد: وأكثر هؤلاء من الطلقاء الذين ظاهر أمرهم يوم الفتح الكفر، ثم بقوا مظهرين الإسلام حتى وثقه الاستئلاف في أكثرهم واستئلافهم إنما كان لتجلب إلى الإسلام منفعة أو تدفع عنه مضرة، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه والحسن والشعبي وجماعة من أهل العلم: انقطع هذا الصنف بعزة الإسلام وظهوره، وهذا مشهور مذهب مالك رحمه الله، قال عبد الوهاب: إن احتيج إليهم في بعض الأوقات أعطوا من الصدقة.
قال القاضي أبو محمد: وقول عمر عندي إنما هو لمعنيين، فإنه قال لأبي سفيان حين أراد أخذ عطائه القديم: إنما تأخذ كرجل من المسلمين فإن الله قد أغنى عنك وعن ضربائك، يريد في الاستئلاف، وأما أن ينكر عمر الاستئلاف جملة وفي ثغور الإسلام فبعيد، وقال كثير من أهل العلم: {المؤلفة قلوبهم} موجودون إلى يوم القيامة.
قال القاضي أبو محمد: وإذا تأملت الثغور وجد فيها الحاجة إلى الاستئلاف، وقال الزهري: {المؤلفة} من أسلم من يهودي أو نصراني وإن كان غنياً.
قال القاضي أبو محمد: يريد لتبسط نفسه ويحبب دين الإسلام إليه، وأما {الرقاب} فقال ابن عباس والحسن ومالك وغيره: هو ابتداء العتق وعون المكاتب بما يأتي على حريته، واختلف هل يعان بها المكاتب في أثناء نجومه بالمنع والإباحة، واختلف على القول بإباحة ذلك إن عجز فقيل يرد ذلك من عند السيد، وقيل يمضي لأنه كان يوم دفعه بوجه مترتب، وقال الشافعي: معنى {وفي الرقاب} في المكاتبين ولا يبتدأ منها عتق عبد، وقاله الليث وإبراهيم النخعي وابن جبير، وذلك أن هذه الأصناف إنما تعطى لمنفعة المسلمين أو لحاجة في أنفسها، والعبد ليس له واحدة من هاتين العلتين، والمكاتب قد صار من ذوي الحاجة وقال الزهري: سهم الرقاب نصفان، نصف للمكاتبين ونصف يعتق منه رقاب مسلمون ممن صلى، قال ابن حبيب: ويفدى منه أسارى المسلمين ومنع ذلك غيره، وأما الغارم فهو الرجل يركبه دين في غير معصية ولا سفه، قال العلماء: فهذا يؤدى عنه وإن كانت له عروض تقيم رمقه وتكفي عياله، وكذلك الرجل يتحمل بحمالة في ديارات أو إصلاح بين القبائل ونحو هذا، وهو أحد الخمسة الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم،
«ولا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة العامل عليها أو غاز في سبيل الله أو رجل تحمل بحمالة أو من أهديت له أو من اشتراها بماله».
قال القاضي أبو محمد: وقد سقط {المؤلفة} من هذا الحديث، ولا يؤدى من الصدقة دين ميت ولا يعطى منها من عليه كفارة ونحو ذلك من حقوق الله، وإنما الغارم من عليه دين يسجن فيه، وقد قيل في مذهبنا وغيره: يؤدى دين الميت من الصدقات قاله أبو ثور، وأما {في سبيل الله} فهو المجاهد يجوز أن يأخذ من الصدقة لينفقها في غزوه وإن كان غنياً قال ابن حبيب: ولا يعطى منها الحاج إلا أن يكون فقيراً فيعطى لفقره، وقال ابن عباس وابن عمر وأحمد وإسحاق: يعطى منها الحاج وإن كان غنياً، والحج سبيل الله، ولا يعطى منها في بناء مسجد ولا قنطرة ولا شراء مصحف ونحو هذا، وأما {ابن السبيل} فهو الرجل في السفر والغربة يعدم فإنه يعطى من الزكاة وإن كان غنياً في بلده، وسمي المسافر ابن السبيل لملازمته السبيل كما يقال للطائر: ابن ماء لملازمته له ومنه عندي قولهم: ابن جلا وقد قيل فيه غير هذا ومنه قولهم: بنو الحرب وبنو المجد ولا يعطى بنو هاشم من الصدقة المفروضة، قال ابن الماجشون ومطرف وأصبغ وابن حبيب: ولا من التطوع ولا يعطى مواليهم لأن مولى القوم منهم، قال ابن القاسم: يعطى بنو هاشم من صدقة التطوع ويعطى مواليهم من الصدقتين، ومن سأل من الصدقة وقال إنه فقير، فقالت فرقة يعطى دون أن يكلف بينة على فقره بخلاف حقوق الآدميين يدعي معها الفقر فإنه يكلف البينة لأنها حقوق الناس يؤخذ لها بالأحوط، وأيضاً فالناس إذا تعلقت بهم حقوق آدمي محمولون على الغني حتى يثبت العدم ويظهر ذلك من قوله تعالى
{وإن كان ذو عسرة} [البقرة: 280] أي ان وقع فيعطي هذا أن الأصل الغنى فإن وقع ذو عسرة فنظرة، وقالت فرقة: الرجل الصحيح الذي لا يعلم فقره لا يعطى إلا أن يعلم فقره، وأما إن ادعى أنه غارم أو مكاتب أو ابن سبيل أو في سبيل الله أو نحو ذلك مما لم يعلم منه فلا يعطى إلا ببينة قولاً واحداً، وقد قيل في الغارم: تباع عروضه وجميع ما يملك ثم يعطى بالفقر، ويعطى الرجل قرابته الفقراء وهم أحق من غيرهم فإن كان قريبه غائباً في موضع تقصر إليه الصلاة فجاره الفقير أولى، وإن كان في غيبة لا تقصر إليه الصلاة فقيل هو أولى من الجار الفقير، وقيل الجار أولى ويعطى الرجل قرابته الذين لا تلزمه نفقتهم، وتعطى المرأة زوجها، وقال بعض الناس ما لم ينفق عليها، ويعطي الرجل زوجته إذا كانت من الغارمين، واختلف في ولاء الذي يعتق من الصدقة، فقال مالك: ولاؤه لجماعة المسلمين وقال أبو عبيد: ولاؤه للمعتق وقال عبيد الله بن الحسن: يجعل ماله في بيت الصدقات، وقال الحسن وأحمد وإسحاق: ويعتق من ماله رقاب، وإذا كان لرجل على معسر دين فقيل يتركه له ويقطع ذلك من صدقته وقيل لا يجوز ذلك جملة، وقيل إن كان ممن لو رفعه للحاكم أمكن أن يؤديه جاز ذلك وإلا لم يجز لأنه قد توي وأما السبيل: فهو الذي قدمنا ذكره يعطى الرجل الغازي وإن كان غنياً، وقال أصحاب الرأي لا يعطى الغازي في سبيل الله إلا أن يكون منقطعاً به، قال ابن المنذر؟ وهذا خلاف ظاهر القرآن وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما القرآن فقوله {وفي سبيل الله}، وأما الحديث فقوله «إلا لخمسة لعامل عليها أو غاز في سبيل الله»، وأما صورة التفريق فقال مالك وغيره: على قدر الحاجة ونظر الإمام يضعها في أي صنف رأى وكذلك المتصدق، وقاله حذيفة بن اليمان وسعيد بن جبير وإبراهيم وأبو العالية، قال الطبري: وقال بعض المتأخرين: إذا قسم المتصدق قسم في ستة أصناف لأنه ليس ثم عامل ولأن المؤلفة قد انقطعوا فإن قسم الإمام ففي سبعة أصناف، قال الشافعي وعكرمة والزهري: هي ثمانية أقسام لثمانية أصناف لا يخل بواحد منها واحتج الشافعي بقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي سأله: «إن الله تعالى لم يرض في الصدقات بقسم نبي ولا غيره حتى قسمها بنفسه فجعلها ثمانية أقسام لثمانية أصناف فإن كنت واحداً منها أعطيتك».
قال القاضي أبو محمد: والحديث في مصنف أبي داود، وقال أبو ثور: إذا قسمها الإمام لم يخل بصنف منها وإن أعطى الرجل صدقته صنفاً دون صنف أجزأه ذلك وقال النخعي: إذا كان المال كثيراً قسم على الأصناف كلها وإذا كان قليلاً أعطاه صنفاً واحداً. وقالت فرقة من العلماء: من له خمسون درهماً فلا يعطى من الزكاة، وقال الحسن وأبو عبيد، لا يعطى من له أوقية وهي أربعون درهماً، قال الحسن: وهو غني وقال الشافعي: قد يكون الرجل الذي لا قدر له غنياً بالدرهم مع سعيه وتحيله، وقد يكون الرجل له القدر والعيال ضعيف النفس والحيلة فلا تغنيه آلاف، وقال أبو حنيفة: لا يأخذ الصدقة من لا مائتا درهم ومن كان له أقل فلا بأس أن يأخذ، قال سفيان الثوري: لا يدفع إلى أحد من الزكاة أكثر من خمسين درهماً، إلا أن يكون غارماً وقال أصحاب الرأي، إن أعطي ألفاً وهو محتاج أجزأ ذلك، وقال أبو ثور: يعطى من الصدقة حتى يغنى ويزول عنه اسم المسكنة ولا بأس أن يعطى الفقير الألف وأكثر من ذلك، وقال ابن المنذر: أجمع أكثر من يحفظ عنه من أهل العلم أن من له دار وخادم لا يستغني عنهما أن يأخذ من الزكاة وللمعطي أن يعطيه، وقال مالك: إن لم يكن في ثمن الدار والخادم فضلة على ما يحتاج إليه منهما جاز له الأخذ وإلا لم يجزه، وأما الرجل يعطي الآخر وهو يظنه فقيراً فإذا هو غني، فإنه إن كان بفور ذلك أخذها منه فإن فاتت نظر، فإن كان الآخذ غنياً وأخذها مع علمه بأنها لا تحل له ضمنها على كل وجه، وإن كان لم يغر بل اعتقد أنها تجوز له، أو لم يتحقق مقصد المعطي نظر، فقال الحسن وأبو عبيدة: تجزيه، وقال الثوري وغيره: لا تجزيه، وأهل بلد الصدقة أحق بها إلا أن تفضل فتنقل إلى غيرها بحسب نظر الإمام، قال ابن حبيب في الواضحة: أما {المؤلفة} فانقطع سهمهم، وأما سبيل الله فلا بأس أن يعطى الإمام الغزاة إذا قل الفيء في بيت المال.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الشرط فيه نظر، قال ابن حبيب: وينبغي للإمام أن يأمر السعاة بتفريقها بالمواضع التي جبيت فيها ولا يحمل منه شيء إلى الإمام إلا أن يرى ذلك لحاجة أو فاقة نزلت بقوم، قال مالك: ومن له مزرعة أو شيء في ثمنه إذا باعه ما يغنيه لم يجز له أخذ الصدقة، وهذه جملة من فقه الآية كافية على شرطنا في الإيجاز والله الموفق برحمته، وقال تعالى: {فريضة من الله} أي موجبة محدودة وهو مأخوذ من الفرض في الشيء بمعنى الحز والقطع ثبوت ذلك ودوامه، شبه ما يفرض من الأحكام، ونصب {فريضة} على المصدر، ثم وصف نفسه تعالى بصفتين مناسبتين لحكم هذه الآية لأنه صدر عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة بينهم.


الضمير في قوله {ومنهم} عائد على المنافقين، و{يؤذون} لفظ يعم جميع ما كانوا يفعلونه ويقولونه في جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى، وخص بعد ذلك من قولهم {هو أذن}، وروي أن قائل هذه اللفظة نبتل بن الحارث وكان من مردة المنافقين، وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من سره أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث وكان ثائر الرأس منتفش الشعرة أحمر العينين أسفع الدين مشوهاً، روي عن الحسن البصري ومجاهد أنهما تأولا أنهم أرادوا بقولهم {هو أذن} أي يسمع منا معاذيرنا وتنصلنا ويقبله، أي فنحن لا نبالي عن أذاه ولا الوقوع فيه إذ هو سماع لكل ما يقال من اعتذار ونحوه، فهذا تنقص بقلة الحزامة والانخداع، وروي عن ابن عباس وجماعة معه أنهم أرادوا بقوله {هو أذن} أي يسمع كل ما ينقل إليه عنا ويصغي إليه ويقبله، فهذا تشكٍّ منه ووصف بأنه يسوغ عنده الأباطيل والنمائم، ومعنى {أذن} سماع، ويسمى الرجل السماع لكل قول أذناً إذا كثر منه الإبل التي قد بزل نابها ناب وقيل معنى الكلام ذو أذن أي ذو سماع، وقيل إن قوله {أذن} مشتق من قولهم أذن للشيء إذا استمع كما قال الشاعر وهو علي بن زيد: [الرمل]
أيها القلب تعللْ بِدَدنْ *** إن همّي في سماعٍ وأَذَنْ
وفي التنزيل {وأذنت لربها وحقت} [الإنشقاق: 2-5] ومن هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم «ما أذن الله لشيء كأذنه لنبي يتغنى بالقرآن» ومن هذا قول الشاعر [عدي بن زيد]: [الرمل]
في سماع يأذن الشيخ له *** وحديث مثل ماذيّ مشار
ومنه قوله الآخر [قعنب بن أم صاحب]: [البسيط]
صمٌّ إذا سمعوا خيراً ذكرت به *** وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وقرأ نافع {أذْن} بسكون الذال فيهما، وقرأ الباقون {أذُن} بضم الذال فيهما، وكلهم قرأ بالإضافة إلى {خير} إلا ما روي عاصم، وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وعيسى بخلاف {قل أذنٌ خيرٌ} برفع خير وتنوين {أذن} وهذا يجري مع تأويل الحسن الذي ذكرناه أي من يقبل معاذيركم خير لكم، ورويت هذه القراءة عن عاصم، ومعنى {أذن خير} على الإضافة أي سماع خير وحق، {ويؤمن بالله} معناه يصدق بالله، {ويؤمن للمؤمنين} قيل معناه ويصدق المؤمنين واللام زائدة كما هي في قوله {ردف لكم} [النمل: 72] وقال المبرد هي متعلقة بمصدر مقدر من الفعل كأنه قال وإيمانه للمؤمنين أي تصديقه، ويقال آمنت لك بمعنى صدقتك ومنه قوله تعالى:
{وما أنت بمؤمن لنا} [يوسف: 17].
قال القاضي أبو محمد: وعندي أن هذه التي معها اللام في ضمنها باء فالمعنى ويصدق للمؤمنين بما يخبرونه، وكذلك {وما أنت بمؤمن لنا} [يوسف: 17] بما نقوله لك والله المستعان، وقرأ جميع السبعة إلا حمزة {ورحمةٌ} بالرفع عطفاً على {أذن} وقرأ حمزة وحده {ورحمةٍ} بالخفض عطفاً على {خير}، وهي قراءة أبي بن كعب وعبد الله والأعمش، وخصص الرحمة {للذين آمنوا} إذ هم الذين نجوا بالرسول وفازوا به، ثم أوجب تعالى للذين يؤذون رسول الله العذاب الأليم وحتم عليهم به، وقوله تعالى: {يحلفون بالله لكم} الآية، ظاهر هذه الآية أن المراد بها جميع المنافقين الذين يحلفون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين بأنهم منهم في الدين وأنهم معهم في كل أمر وكل حزب، وهم في ذلك يبطنون النفاق ويتربصون الدوائر وهذا قول جماعة من أهل التأويل، وقد روت فرقة أنها نزلت بسبب رجل من المنافقين قال إن كان ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم حقاً فأنا شر من الخمر، فبلغ قوله رسول الله صلى الله وسلم فدعاه ووقف على قوله ووبخه فحلف مجتهداً أنه ما فعل، فنزلت الآية في ذلك، وقوله {والله} مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها، والتقدير عنده والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه وهذا كقول الشاعر: [المنسرح]
نحن بما عندنا وأنت بما عن *** دك راضٍ والرأي مختلفُ
ومذهب المبرد أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، وتقديره والله أحق أن يرضوه ورسوله قال وكانوا يكرهون أن يجمع الرسول مع الله في ضمير، حكاه النقاش عنه، وليس هذا بشيء، وفي مصنف أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما» فجمع في ضمير، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر «بئس الخطيب أنت» إنما ذلك وقف في يعصهما فأدخل العاصي في الرشد، وقيل الضمير في {يرضوه} عائد على المذكور كما قال رؤبة: [الرجز].
فيها خطوطٌ من سوادٍ وبلقْ *** كأنَّه في الجلد توليعُ البهقْ
وقوله {إن كانوا مؤمنين} أي على قولهم ودعواهم، وقوله {ألم يعلموا} الآية، قولهم {ألم} تقرير ووعيد، وفي مصحف أبي بن كعب {ألم تعلم} على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو وعيد لهم، وقرأ الأعرج والحسن {ألم تعلموا} بالتاء، و{يحادد} معناه يخالف ويشاق، وهو أن يعطي هذا حده وهذا حده لهذا، وقال الزجاج: هو أن يكون هذا في حد وهذا في حد، وقوله {فإن} مذهب سيبويه أنها بدل من الأولى وهذا معترض بأن الشيء لا يبدل منه حتى يستوفى، والأولى في هذا الموضع لم يأت خبرها بعد إذ لم يتم جواب الشرط، وتلك الجملة هي الخبر، وأيضاً فإن الفاء تمانع البدل، وأيضاً فهي في معنى آخر غير الأول فيقلق البدل، وإذا تلطف للبدل فهو بدل الاشتمال وقال غير سيبويه: هي مجردة لتأكيد الأولى وقالت فرقة من النحاة: هي في موضع خبر ابتداء تقديره فواجب أن له، وقيل المعنى فله أن له، وقالت فرقة: هي ابتداء والخبر مضمر تقديره فإن له نار جهنم واجب، وهذا مردود لأن الابتداء ب أن لا يجوز مع إضمار الخبر، قاله المبرد: وحكي عن أبي علي الفارسي قول يقرب معناه من معنى القول الثالث من هذه التي ذكرنا لا أقف الآن على لفظه، وجميع القراء على فتح أن الثانية، وحكى الطبري عن بعض نحويي البصرة أنه اختار في قراءتها كسر الألف، ذكر أبو عمرو الداني أنها قراءة ابن أبي عبلة، ووجهه في العربية قوي لأن الفاء تقتضي القطع والاستئناف ولأنه يصلح في موضعها الاسم ويصلح الفعل وإذا كانت كذلك وجب كسرها.


قوله، {يحذر} خبر عن حال قلوبهم، وحذرهم إنما هو أن تتلى سورة ومعتقدهم هل تنزل أم لا ليس بنص في الآية لكنه ظاهر، فإن حمل على مقتضى نفاقهم واعتقادهم أن ذلك ليس من عند الله فوجه بين، وإن قيل إنهم يعتقدون نزول ذلك من عند الله وهم ينافقون مع ذلك فهذا كفر عناد، وقال الزجّاج وبعض من ذهب إلى التحرز من هذا الاحتمال: معنى يحذر الأمر وإن كان لفظه لفظ الخبر كأنه يقول ليحذر وقرأ أبو عمرو وجماعة معه {أن تنْزَل} ساكنة النون خفيفة الزاي، وقرأ بفتح النون مشددة الزاي الحسن والأعرج وعاصم والأعمش، و{أن} من قوله {أن تنزل} مذهب سيبويه، أن، {يحذر} عامل فهي مفعوله، وقال غيره حذر إنما هي من هيئات النفس التي لا تتعدى مثل فزع وإنما التقدير يحذر المنافقون من أن تنزل عليهم سورة، وقوله {قل استهزئوا} لفظه الأمر ومعناه التهديد، ثم ابتدأ الإخبار عن أنه يخرج لهم إلى حيز الوجود ما يحذرونه، وفعل ذلك تبارك وتعالى في سورة براءة فهي تسمى الفاضحة لأنها فضحت المنافقين، وقال الطبري: كان المنافقون إذ عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا شيئاً من أمره قالوا لعل الله لا يفشي سرنا فنزلت الآية في ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يقتضي كفر العناد الذي قلناه، وقوله {ولئن سألتهم} الآية، نزلت على ما ذكر جماعة من المفسرين في وديعة بن ثابت وذلك؟ أنه مع قوم من المنافقين كانا يسيرون في عزوة تبوك، فقال بعضهم لبعض هذا يريد أن يفتح قصور الشام ويأخذ حصون بني الأصفر هيهات هيهات، فوقفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، وقال لهم قلتم كذا وكذا، فقالوا {إنما كنا نخوض ونلعب}، يريدون كنا مجدين، وذكر ابن إسحاق أن قوماً منهم تقدموا النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم كأنكم والله غداً في الحبال أسرى لبني الأصفر إلى نحو هذا من القول، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر: «أدرك القوم فقد احترقوا وأخبرهم بما قالوا» ونزلت الآية، وروي أن وديعة بن ثابت المذكور قال في جماعة من المنافقين: ما رأيت كقرائنا هؤلاء لا أرغب بطوناً ولا أكثر كذباً ولا أجبن عند اللقاء فعنفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه المقالة فقالوا {إنما كما نخوض ونلعب}، ثم أمره بتقريرهم {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} وفي ضمن هذا التقرير وعيد، وذكر الطبري عن عبد الله بن عمر أنه قال: رأيت قائل هذه المقالة وديعة متعلقاً بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكبه وهو يقول {إنما كنا نخوض ونلعب} والنبي يقول {أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} وذكر النقاش أن هذا المتعلق كان عبد الله بن أبي ابن سلول، وذلك خطأ لأنه لم يشهد تبوك، وقوله تعالى: {لا تعتذروا} الآية، المعنى قل لهم يا محمد لا تعتذروا على جهة التوبيخ كأنه قال لا تفعلوا ما لا ينفع.
ثم حكم عليهم بالكفر فقال لهم {قد كفرتم بعد إيمانكم} الذي زعمتموه ونطقتم به، وقوله {عن طائفة منكم} يريد فيما ذكر المفسرون رجلاً واحداً قيل اسمه مخشن بن حفير قاله ابن إسحاق، وقال ابن هشام ويقال فيه مخشي وقال خليفة بن خياط في تاريخه مخاشن بن حمير وذكر ابن عبد البر مخاشن الحميري وذكر جميعهم أنه استشهد باليمامة وكان قد تاب وتسمى عبد الرحمن، فدعا الله أن يستشهد، ويجهل أمره فكان ذلك باليمامة ولم يوجد جسده، وذكر أيضاً ابن عبد البر محشي بن حمير بضم الحاء وفتح الميم وسكون الياء ولم يتقن القصة، وكان محشي مع المنافقين الذين قالوا {إنما كنا نخوض ونلعب} فقيل كان منافقاً ثم تاب توبة صحيحة، وقيل كن مسلماً مخلصاً إلا أنه سمع كلام المنافقين فضحك لهم ولم ينكر عليهم فعفا الله عنه في كلا الوجهين، ثم أوجب العذاب لباقي المنافقين الذين قالوا ما تقدم، وقرأ جميع السبعة سوى عاصم {إن يعف عن طائفة} بالياء {تعذب} بالتاء، وقرأ الجحدري {إن يعف} بالياء على تقديره يعذب الله طائفة بالنصب، وقرأ عاصم وزيد بن ثابت وأبو عبد الرحمن إن نعف بالنون نعذب بنون الجميع أيضا ً، وقرأ مجاهد إن تعفُ بالتاء المضمومة على تقدير إن تعف هذه الذنوب تعذب بالتاء أيضاً.

6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13